قبل الرحيل الأخير
يا صاحبي: أوصي نفسي وإياك بالاهتمام الشديد بغذاء الروح, فغذاءُ الروح أهم وأخطر من غذاء الجسد, والروح تطيبُ وتخبث بحسَب غذائها كالجسد بل أشد.
ولتنتبه _ يا محب _ لمسألة في غاية الأهمية, وهي مسألة الحرص البالغ على زيادة منسوب الإيمان في القلب, فالإيمان ينقص - تلقائيًا - مع مضي الوقت فليس مستواه ثابتًا, ولو كان كذلك لاقتربنا من أحوال الملائكة, فإن لم يرفع المؤمن منسوب الإيمان في قلبه بتوالي الطاعات كيفًا وكمّا لخُشِيَ على الفؤاد أن يمسي جافًّا بلقعًا.. والمرضُ يسبق الوفاة!
وبعض الناس يظن أن المعصية المباشرة هي ما ينقص الإيمان فقط, وهذا خطأ ترتب عليه زهد بعض الصالحين في رفع مستوى إيمانهم عبر قنواته المعلومة المشروعة, وهي الطاعات تلو الطاعات, من قراءة وصلاة ودعاء وذكر وتفكّر وصدقة وبر وصِلةٍ وحسن خُلُقٍ وغير ذلك.. كما قال جلّ في علاه: "ويزداد الذين آمنوا إيمانًا"
وقد صار لسان حال بعض الأخيار: بما أني لم أقع في كبيرة، ولم أُصرّ على صغيرة؛ فإيماني جيّد وحالي مطَمْئِن! وكأنه لم يعلم أن الغفلة تأكل هذا المخزون الإيماني في القلب, بل إن الانكباب على الشهوات المباحة وكثرة ملابستها هو مما يُخْلِقُ الإيمان في القلب ويُنقص منسوبه، فضلًا عن الموبقات! ولولا ذلك لصافحتنا الملائكة في الطرقات, وهذه سنّة ربانية جعلها الحكيم سبحانه من موارد ابتلاء عباده.
فعلى الناصح لنفسه أن يراعي ذلك المخزون من الإيمان في قلبه، وأن يستمر ويداوم على تغذيته باستمرار, فهو كالخزّان الذي ينزف الماء من أسفل، ولا حيلة في إغلاقه, فتردُّدُ النّفَسِ في الصدر في هذه الدار هو ذلك الخرق اليسير في أسفله, فإن صاحَبَهُ توسُّعٌ في مباح, أو ركون لمكروه, أو طول غفلة عن ذكر, أو ملابسة خطيئة؛ فتلك خروقٌ أخرى في جدار خزان الإيمان, وعلى قدر خطرها يكون نزفُه!
فخروق الخطايا يمكن سدّها بالتوبة الصادقة النصوح, أما ذلك الخرق الأول اليسير فلا حيلة في سدّه بسبب ثقْلةِ الطين وجذب الغريزة وتحتّم مخالطة المادة, ولكن الحيلة في تعويض ما ذهب بمنسوب جديد من الإيمان, وموارده بحمد ربنا في متناول كل مؤمن مهما كان حاله, وعلى قدر كيفية وكمّية إحسان الطاعة إخلاصًا واتّباعًا؛ يكون المنسوب أغزر وأصفى وأضوَأُ, والشأن في من يملأ ذلك المخزون حتى يفيض على أركان روحه فتطمئن للقاء ربها وتنتظر موعوده وأجله الذي أخفى وقته وحتّم وقوعه.
وتأمل الحكم السامية في فريضة الصلوات الخمس بديمومةٍ لا يقطعها إلا الرحيل الأخير، وما فيها من ذكر وابتهال وتعلّق، بل وأعظم منه الخشوع في الصلاة وما يترتب عليه من نعيم أنفُسٍ لا يصفها إلا من ذاقها من الموفقين. وتفكّر في مشروعية الاعتكاف كل سنة وما يصاحبه من جمعيّة قلب على الله. وتأمل قول نبينا صلى الله عليه وسلم: "إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم" رواه الحاكم وصححه الألباني في صحيح الجامع.
ومما يلحق بذلك - وهو من أعظم تسويلات الشيطان - من سوّفَ التوبة إلى أن تقوى إرادته في المستقبل حتى يستطيع كبح جماح الأمّارة! وهذا مستحيل في العادة إلا بمحض اللطف الربّاني، لأن العزيمة القوية للتوبة والحملة الصادقة للأوبة لا تكون في القلب إلا بعد وصول الإيمان لدرجة عالية من شأنها حرق شهوة العصيان. فحال هذا كمن يستوقد من الماء أو يمتح من النار! وما أجمل ما كتبه الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز رحمهما الله: كأنك بالدنيا ولم تكن, وبالآخرة ولم تزل. والسلام.
وبالجملة: فالإصرار على الذنب - أيًّا كان - ينقص مخزون الإيمان الذي بدوره يذيب الشهوة ويحرقها، لذا فإن ضعُفْتَ عن الإقلاع الفوري عن الخطيئة، فلا تترك التزوّدَ من الطاعات ونوافل القربات بحجّة أنك لستَ أهلٌ لها لإصرارك، بل أمدّ الخزّان بالإيمانيات - حتى وأنت مقيم على الذنب - ومن أعظمها تلاوة القران بتدبر، والضراعة بين يدي مولاك، حتى إذا وصل منسوب الإيمان لمستوىً معيَّنٍ كفاك مؤنة ضعفك وأحرق شهوة العصيان, فدخلت التوبة من أوسع أبوابها. اللهم تب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
خفقة قلم: كل قبحٍ يتلاشى مع التعوّد.. حتى قبح المعصية!
إبراهيم الدميجي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق