نشأة المذهب الدرزي وعلاقته بالإسماعيلية
طائفة الدروز طائفة باطنية، وهي من الطوائف الكبرى التي انشقت عن الإسماعيلية في عصرها العبيدي، واتخذت لها مبادئ تخالف في ظاهرها مبادئ الإسماعيلية، وإن كانت تتفق معها في جوهرها•
والدروز يقيمون الآن في عدة مناطق من بلاد الشام، في الشوف (لبنان) وجبل حوران، وفي هضبة الجولان، وشمالي فلسطين، وحوالي 90% من دروز سوريا يعيشون في جنوبها، وبالذات في محافظة السويداء، ومعظمهم يعيشون على الزراعة، ومعظم الدروز اليوم في سوريا، كانوا قد هاجروا من لبنان وفلسطين وحلب خلال القرنين السابع عشر، والتاسع عشر (1)
والدروز يزعمون أنهم من القبائل العربية التي هاجرت من الجزيرة العربية في الجاهلية إلى وادي التيم “الشوف”، واعتنقوا الإسلام هناك، وانتشر المذهب الإسماعيلي بينهم بعد ذلك أيام الدولة العبيدية، وكان لاعتناقهم هذا المذهب أثر كبير في سرعة استجابتهم لمذهب الدروز فيما بعد•
فعقيدة الدروز في الحقيقة هي جزء مهم من عقيدة وتاريخ الإسماعيلية في عصرها العبيدي، أيام الحاكم بأمر الله الذي يؤلهه الدروز، وكان قد أنشأ مركزاً لإعداد الدعاة الإسماعيليين سماه “دار الحكمة” استقطب إليها دعاة الإسماعيلية من كل مكان(2)
وقد احتشد في دار الحكمة طائفة من دعاة الإسماعيلية الملاحدة، والتفوا حول الحاكم بأمر الله، وزينوا له فكرة “ألوهيته” التي كانت تعتلج في نفسه، مما جعله وراء هذه الدعوة يرعاها ويرقب تطوراتها ويشجع دعاتها (3)
وكان الحاكم العبيدي (سادس الخلفاء العبيديين) لمصر يمهد لفكرة الألوهية، وأمر الخطباء أن يقرأوا بدل البسملة “باسم الله الحاكم المحيي المميت”، وأنشأ يدعي علم المغيبات (4)
يقول السيوطي: “إن الحاكم أمَرَ الرعية، إذا ذكره الخطيب على المنبر، أن يقوموا له على أقدامهم صفوفاً، إعظاماً لذكره واحتراماً لاسمه••• وكان أهل مصر على الخصوص إذا قاموا خرُّوا له سجَّداً، وكان جباراً عنيداً وشيطاناً مريداً، كثيرا لتلون في أقواله وأفعاله” (5)
وكان موقف الحاكم من أركان الإسلام وأحكامه متناقضاً مضطرباً، فقد أمر عام/ 400هـ، بإلغاء الزكاة، وأعيدت صلاة التراويح بعد أن منعها عشرين سنة، وأراد تعديل بعض أحكام الحج الذي كان قد أمر بإلغائه في بعض السنوات”(6)
وكان قد أمر بسب الصحابة، وكتب ذلك على أبواب المساجد والحوانيت والمقابر (7)
كان - كما يصفه المؤرخون - غريب الأطوار ومستبداً متقلبا،ً لبس الصوف الخشن تنسكاً وقنوتاً سبع سنوات، وأنار الشموع ليلاً ونهاراً سبع سنوات، وألزم نساء القاهرة بيتهن سبع سنوات••• ونهى عن أكل الملوخية، وحرّم الجرجير على الناس•••” (8)
وكان الحاكم بأمر الله شغوفاً بالليل، يسير في شطر كبير منه في الأزقة والشوارع، وكان قد أطلق شعره حتى تدلى على أكتافه، وأطلق أظافره•
ومن شواذه أنه كان يؤثر ركوب الحمير، ولا سيما الشهباء منها، ويطوف بها في شوارع القاهرة•••
وصارت أفعاله المتناقضة هذه من صلب عقيدة الدروز، الدالة على ألوهيته، لأن لها ظاهراً وباطناً، والمعروف للإنسان العادي هو الظاهر فقط من تلك الأفعال، أما باطنها فهو من اختصاص الدروز وحدهم (9) .وهكذا يزعمون .
وقد بدأت الدعوة الجهرية (بشكل واضح) لألوهية الحاكم عام/ 408هـ، على يد ثلاثة من دعاة الإسماعيلية وهم:
حمزة بن علي الزوزني،
ومحمد بن إسماعيل الدَّرَزي المعروف بـ “نشتكين”،
والحسن بن حيدرة الفرغاني “الأخرم”، وكانت هذه الدعوة موجودة بشكل سري منذ عام/ 400هـ (10)
يقول مصطفى غالب الكاتب الإسماعيلي المعاصر:
“كان حمزة بن علي الزوزني: هو المؤسس الرئيسي لمذهب الدروز، بعد أن استطاع إبعاد منافسه اللدود محمد بن إسماعيل الدرزي•
وكان حمزة بن علي قد وفد على مصر سنة/ 405هـ، وانتظم في سلك رعاة الفرس، الذين كانوا يترددون على دار الحكمة لحضور مجالس الحكمة التأويلية، وما لبث أن أصبح ممثلاً لدعاة الفرس، وهمزة الوصل بينهم وبين الحاكم• بأمر الله•
ويضيف قائلاً: لقد أصبحت له حظْوة عند الحاكم بعدما أظهره من إخلاص، وبما ساهم به من مساهمة فعالة في خوض غمار الجدل الديني، وفلسفة المذهب الذي يبشر به•
واستطاع أن يجمع حوله بعض الدعاة، ويتفقون سراً، على الدعوة إلى تأليه الحاكم بأمر الله، معتمداً في دعوته هذه على أصول وأحكام استنبطها من صميم الأصول والأحكام الإسماعيلية”(11)
كان حمزة بن علي هذا، من أعظم دعاة الحاكم الذي كان يؤثره على جميع عشيرته، وكان صاحب الرسائل والمكاتبات عنده (12)
كان حمزة فارسياً، ولد بمدينة “زوزن” في خراسان من بلاد فارس سنة/ 375هـ مساء الخميس في 23/ ربيع الأول/ وهو اليوم والتاريخ الذي ولد فيه الحاكم العبيدي بمصر، ولذلك فإن الدروز يقيمون الصلاة الأسبوعية مساء كل خميس(13).
“وكان حمزة قد قدم إلى مصر في العشرين من عمره، وتبع الحاكم وصار يلقب (بالفاطمي)، بعد أن كان “الزوزني”، وبظهور حمزة بن علي بن أحمد، بدأت الدعوة (التوحيدية) وبها بدأ تاريخ الدروز، سنة/ 408هـ” (14)
وبدأ الصراع بين دعاة الدروز مع الشعب السني بمصر•
فعندما جهر (نشتكين الدرزي) بالدعوة وكشف أسرارها عام/ 407هـ، غضب عليه حمزة، وكاد الدرزي يقتل بمصر فهرّبه الحاكم إلى الشام، إلى وادي التيم في لبنان، وهناك دعا إلى المذهب الجديد•
وكان نشتكين قد أثار نقمة “الموحدين” لأنه أدخل التحريف والتشويه على رسائل (حمزة) بقصد التنفير والاستعداء••• فتخلص حمزة منه ومن أصحابه معاً، حيث أعلن حمزة نبأ مقتلهم سنة/ 410هـ (15) .
أما حسن الأخرم الفرغاني، فقد قتل بينما كان يسير في القاهرة، قتله رجل من أهل السنة•
يقول أبو المحاسن في كتابه: “النجوم الزاهرة في ثورة/ 409هـ:
“إنّ حسن الأخرم، لما أعلن لأول مرة ألوهية الحاكم، ثار عليه الناس، وظلوا يتعقبونه حتى قبضوا عليه وقتلوه، وحل محله في تلك السنة الدَّرَزي، الذي اضطر هو بدوره، إلى الخروج من مصر إلى بلاد الشام بعد خلافه مع حمزة حيث قتل هناك” (16) .
لقد كان حمزة يتخلص من خصومه واحداً بعد الآخر، بأسلوب باطني خبيث، حتى أنه كان يحذر من (ابن البربرية) المدعي للإمامة، وهو علي ولي العهد، والذي ينكر حمزة أنه ابن الحاكم بأمر الله، وكان ينهى المستجيبين عن أن يقولوا بأن الحاكم أبوه، وقد تولى الخلافة بعد الحاكم “أبيه”، وينعته بهاء الدين - أحد دعاتهم - في الرسالة (76) بأنه المعتوه المدعي لمنزلة الإمام المسيح•• النغل الشيطان ابن البربرية (17)
وكان حمزة قد انفرد بزعامة المذهب، وجهر بالدعوة وبنفسه عام/ 408هــ، فثار أهل مصر على الدعاة الملحدين ثورة شديدة، ساعدهم فيها الجند الأتراك، فاختفى حمزة عن الناس سنة/ 409، وكان يراسل أعوانه الدعاة، ليقوموا بنشر الدعوة سراً، ويسمى ذلك بالغيبة وأنها سنة “المحنة” أو الامتحان والعذاب، وكان يصدر الأوامر من معتكفه السّري•
واستغرق نشاط حمزة بدعوته الظاهرة ثلاث سنوات هي:
(408، 410، 411هـ) وكان اختفاؤه بموافقة الحاكم وأمره، وكان ينتقل خلال تلك الفترة/ 409هـ خفية، تجنباً لثورة الناس عليه، فالشعب كان يثور على كل انحراف عن السنة(18) .
وكان الحاكم يشجع هؤلاء الدعاة مادياً ومعنوياً، ولذلك فالدروز - الآن - يعتبرون إنكار صلة الحاكم بالمذهب، تقويضاً لمعتقدهم ومذهبهم (19) .
وكان حمزة يعين معاونيه “الحدود الأربعة” بموجب مرسوم تعيين يسمى (التقليدي)، أي تقليد السلطة، من ذلك تقليد “إسماعيل التميمي، ومحمد القرشي، والمقتني•••”، وكان المقتنى بعده، هو الذي يعين معاونيه من الدعاة”•
وكان حمزة يقسم جهاز الدعوة إلى مناطق تشمل أنحاء العالم الإسلامي كله (20) .
هذه نبذة موجزة عن نشأة الدروز وعلاقتهم بالمذهب الإسماعيلي•
أما معتقداتهم فقد ظهرت في أجواء إلحادية منحرفة، هي عقائد الإسماعيلية، لذلك قلنا بأن عقيدة الدروز لم تخرج في جوهرها عن جوهر المذهب الإسماعيلي، الذي لم يكن مكشوفاً لعامة الناس آنذاك
ولعل الحاكم حينما أعلن مذهبه، كان يرى أن الوقت قد حان للكشف عن العقائد البالغة السرية، في حين خالفه آخرون من رجال الدولة الفاطمية - العبيدية - ولذلك دُبّرت مؤامرة للتخلص منه، قتل غيلة بتدبير من أخته “ست الملك”(21) .
ولما تأكد للناس مقتل الحاكم، سارع دعاة تأليهه إلى الزعم بأنه لم يقتل ولم يمت، ولكنه اختفى أو ارتفع إلى السماء، وسيعود عندما تحل الساعة - القيامة - فيملأ الأرض عدلاً•••
ويبدو أن مقتل الحاكم قد أخاف “حمزة الزوزني” فاختفى عن الأنظار عاماً، ثم هرب إلى بلاد الشام، حيث يكثر أتباعه في وادي التيم خاصة، وبقي مختفياً حتى هلاكه هنالك . (22)
وكان حمزة قد كتب رسالة سماها “السجل المعلق” بعد وفاة الحاكم، علقها على أبواب الجامع الكبير في مصر وفيها يقول: “إن الحاكم اختفى امتحاناً لإيمان المؤمنين”، وشرع يزرع في القلوب بذور الاعتقاد بألوهية الحاكم وتوحيده ثم عبادته، وتجمع هو وأتباعه في معبد سري، حتى ثار عليهم المسلمون وطردوهم، ففروا من مصر إلى الشام•
ويعتبر حمزة مقدساً عند الدروز، ويلقبونه بهادي المستجيبين وحجة القائم، وغير ذلك من ألقاب•
ولذلك فالدروز ينكرون نسبتهم إلى “نشتكين الدرزي” ويقدسون رسائل حمزة بن علي، كما أنهم يقدسون صاحبها ويحبون أن يُدْعوا “بالموحدّين”(23) .
الهوامش
----------------------------------
(1)صراع على السلطة في سوريا/ ص 30، ومجلة الدعوة المصرية العدد (70).
(2) الحركات الباطنية في العالم الإسلامي/ ص 199 - 201، محمد أحمد الخطيب•
(3) تاريخ الدولة الفاطمية: د• حسن إبراهيم حسن / ص 355 مكتبة النهضة المصرية/ 1958م•
(4) خطط الشام: محمد كرد علي، جـ 6/ 263، دار العلم للملايين/ بيروت•
(5) البداية والنهاية: لابن كثير/ جـ 12/ ص9، طبعة دار الفكر/ بيروت•
(6) الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية: محمد عبد الله عنان/ ص76 طبعة القاهرة/ 1973م•
(7) المرجع السابق ص 78•
(8) مذهب الدروز والتوحيد: عبد الله النجار/ ص 106، دار المعارف بمصر/ 1965م•
(9) الحركات الباطنية: د• محمد أحمد الخطيب/ ص207•
(10) طائفة الدروز: محمد كامل حسين/ ص75، طبعة دار المعارف بمصر/ 1962م•
(11) الحركات الباطنية في الإسلام: مصطفى غالب/ ص 241، دار الكاتب العربي/ بيروت•
(12) خطط الشام: محمد كرد علي/ ص263، الجزء السادس•
(13) مذهب الدروز والتوحيد: عبد الله النجار/ ص123•
(14) المرجع السابق/ ص123 - 124، لعبد الله النجار•
(15) مذهب الدروز والتوحيد: عبد الله النجار/ ص114•
(16) النجوم الزاهرة: جـ4/ 183•
(17) مذهب الدروز والتوحيد: عبد الله النجار/ ص126•
(18) مذهب الدروز والتوحيد: ص115، 117، 123 - 124•
(19) أضواء على مسلك التوحيد: د•سامي مكارم/ ص 72- 73/ دار صادر - بيروت/ 1966م•
(20) مذهب الدروز والتوحيد: / ص127، عبد الله النجار•
(21) ينظر: مذاهب الإسلاميين، د• عبد الرحمن بدوي، مجلد 2/ ص 609•
(22) الحركات الباطنية في العالم الإسلامي: د• محمد الخطيب/ ص214 - 215•
(23) خطط الشام: محمد كرد علي/ جـ6 - ص 264•
نقلا من منتدى مأساة سوريا مع بعض التعديلات